كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن أمثلة هذا النوع من القياس عند المالكية: احتجاجهم على أن الوضوء لا يجب من كثير القيء. بأنه لما لم يجب من قليله لم يجب من كثيره عكس البول. لما وجب من قليله وجب من كثيره.
ومن أمثلته عند الحنفية. قولهم: لما لم يجب القصاص من صغير المثقل. لم يجب من كبيره عكس المحدد كما وجب من صغيره وجب من كبيره.
ووجه هذا النوع من القياس في هذه المسألة التي نحن بصددها. هو أن العروض لا تحب في عينها الزكاة، فإذا كانت للتجارة والنماء.
وجبت فيها الزكاة، عكس العين: فإن الزكاة واجبة في عينها، فإذا صيغت حليًا مباحًا للاستعمال، وانقطع عنها قصد التنمية بالتجارة، صارت لا زكاة فيها، فتعاكست أحكامهما لتعاكسهما في العلة، ومنع هذا النوع من القياس بعض الشافعية، وقال ابن محرز: إنه أضعف من قياس الشبه، ولا يخفى أن القياس يعتضد به ما سبق من الحديث المرفوع، والآثار الثابتة عن بعض الصحابة، لما تقرر في الأصول، من أن موافقة النص للقياس من المرجحات، وأما وضع اللغة، فإن بعض العلماء يقول: الألفاظ الواردة في الصحيح، في زكاة العين لا تشمل الحلي في لسان العرب.
قال أبو عبيد: الرقة عند العرب: الورق المنقوشة ذات السكة السائرة بين الناس، ولا تطلقها العرب على المصوغ، وكذلك قيل في الأوقية.
قال مقيده:- عفا الله عنه- ما قاله أبو عبيد هو المعروف في كلام العرب، قال الجوهري في صحاحه: الورق الدراهم المضروبة، وكذلك الرقة، والهاء، عوض عن الواو، وفي القاموس: الورق- مثلثة، وككتف-: الدراهم المضروبة، وجمعه أوراق ووراق كالرقة.
هذا هو حاصل حجة من قال: لا زكاة في الحليّ.
وما ادعاه بعض أهل العلم من الاحتجاج لذلك بعمل أهل المدينة، فيه أن بعض أهل المدينة مخالف في ذلك، والحجة بعمل أهل المدينة عند من يقول بذلك، كمالك، إنما هي في إجماعهم على أمر لا مجال للرأي فيه، لا إن اختلفوا، أو كان من مسائل الاجتهاد، كما أشار له في (مراقي السعود) بقوله:
وأوجبن حجية للمدني ** فيما على التوقيف أمره بني

وقيل مطلقًا..! الخ.
لأن مراده بالمدني: الإجماع المدني الواقع من الصحابة، أو التابعين، لا ما اختلفوا فيه كهذه المسألة، وقيده بما بني على التوقيف دون مسائل الاجتهاد في القول الصحيح.
وأما حجة القائلين بأن الحلي تجب فيه الزكاة: فهي منحصرة في أربعة أمور أيضًا:
الأول: أحاديث النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه أوجب الزكاة في الحلي.
الثاني: آثار وردت بذلك عن بعض الصحابة.
الثالث: وضع اللغة.
الرابع: القياس.
أما الأحاديث الواردة بذلك. فمنها ما رواه أبو داود في سننه، حدثنا أبو كامل، وحميد بن مسعدة.
المعنى أن خالد بن الحارث حدثهم: ثنا حسين، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا، قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟! قال: فخلعتهما، فألقتهما إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: هما له عز وجل ولرسوله.
وقال النسائي في سننه: أخبرنا إسماعيل بن مسعود، قال حدثنا خالد، عن حسين، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن امرأة من أهل اليمن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت لها، في يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب فقال: «أتؤدين زكاة هذا؟» قالت: لا قال: «أيسرّكِ أن يسوِّرك الله عز وجل بهما يوم القيامة سوارين من نار؟!» قال: فخلعتهما، فألقتهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: هما لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
أخبرنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا المعتمر بن سليمان قال: سمعت حسينًا قال: حدثني عمرو بن شعيب قال جاءت امرأة، ومعها بنت لها، وفي يد ابنتها مسكتان. نحوه مرسل. قال أبو عبدا لرحمن: خالد أثبت من المعتمر. اهـ.
وهذا الحديث الذي أخرجه أبو داود والنسائي من طريق حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب: أقل درجاته الحسن، وبه تعلم أن قول الترمذي- رحمه الله-: لا يصح في الباب شيء. غير صحيح. لأنه لم يعلم برواية حسين المعلم له عن عمرو بن شعيب. بل جزم بأنه لم يرو عن عمرو بن شعيب إلا من طريق ابن لهيعة، والمثنى ابن الصباح، وقد تابعهما حجاج بن أرطاة والجميع ضعاف.
ومنها ما رواه أبو داود أيضًا، حدثنا محمد بن عيسى. ثنا عتاب- يعني ابن بشير- عن ثابت بن عجلان، عن عطاء، عن أم سلمة قالت: كنت ألبس أوضاحًا من ذهب فقلت: يا رسول الله أكنز هو؟ فقال: «ما بلغ أن تؤدي زكاته، فزكي فليس بكنز»، وأخرج نحوه الحاكم، والدارقطني، والبيهقي. اهـ.
ومنها ما رواه أبو داود أيضًا، حدثنا محمد بن إدريس الرازي، ثنا عمرو بن الربيع بن طارق، ثنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن أبي جعفر: أن محمد بن عمرو بن عطاء أخبره، عن عبد الله بن شداد بن الهاد أنه قال: دخلنا على عائشة زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم فقالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يديَّ فتخات من ورق، فقال: «ما هذا يا عائشة؟!» فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله، قال: «أتؤدِّين زكاتهن؟» قلت: لا، أو ما شاء الله، قال: «هو حسبك من النار».
حدثنا صفوان بن صالح، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا سفيان عن عمر بن يعلى، فذكر الحديث نحو حديث الخاتم، قيل لسفيان كيف تزكيه؟ قال: تضمه إلى غيره. اهـ.
وحديث عائشة هذا أخرج نحوه أيضًا الحاكم، والدارقطني، والبيهقي. اهـ.
وأخرج الدارقطني، عن عائشة من طريق عمرو بن شعيب، عن عروة عنها قالت: لا بأس بلبس الحلي إذا أعطي زكاته. اهـ.
قال البيهقي- رحمه الله-: وقد انضم إلى حديث عمرو بن شعيب حديث أم سلمة. وحديث عائشة، وساقهما.
ومنها ما رواه الإمام أحمد، عن أسماء بنت يزيد بلفظ قالت: دخلت أنا وخالتي على النَّبي صلى الله عليه وسلم، وعلينا أساور من ذهب فقال لنا: «أتعطيان زكاته؟» قالت فقلنا: لا، قال: «أما تخافان أن يسوركما الله بسوار من نار؟! أديا زكاته». اهـ.
وروى الدارقطني نحوه من حديث فاطمة بنت قيس، وفي سنده أبو بكر الهذلي، وهو متروك. اهـ. قاله ابن حجر في (التلخيص).
وأما الآثار: فمنها ما رواه ابن أبي شيبة، والبيهقي من طريق شعيب بن يسار قال: كتب عمر إلى أبي موسى: أن مُرْ مَنْ قبلك من نساء المسلمين أن يصدقن من حليهنَّ. اهـ.
قال البيهقي: هذا مرسل شعيب بن يسار لم يدرك عمر. اهـ.
وقال ابن حجر في (التلخيص): وهو مرسل. قاله البخاري، وقد أنكر الحسن ذلك فيما رواه ابن أبي شيبة قال: لا نعلم أحدًا من الخلفاء قال: في الحليّ زكاة.
ومنها ما رواه الطبراني، والبيهقي، عن ابن مسعود: أن امرأته سألته، عن حلي لها، فقال: إذا بلغ مائتي درهم ففيه الزكاة، قالت: أضعها في بني أخ لي في حجري؟ قال: نعم.
قال البيهقي: وقد روي هذا مرفوعًا إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، وليس بشيء، وقال: قال البخاري: مرسل، ورواه الدارقطني من حديث ابن مسعود مرفوعًا، وقال: هذا وهم والصواب موقوف. قاله ابن حجر في (التلخيص).
ومنها ما رواه البيهقي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أنه كان يكتب إلى خازنه سالم، أن يخرج زكاة حلي بناته كل سنة، وما روي من ذلك عن ابن عباس، قال الشافعي. لا أدري أيثبت عنه أم لا؟ وحكاه ابن المنذر، والبيهقي، عن ابن عباس، وابن عمر. وغيرهما. قاله في (التلخيص) أيضًا.
وأما القياس: فإنهم قاسوا الحلي على المسكوك والمسبوك، بجامع أن الجميع نقد.
وأما وضع اللغة: فزعموا أن لفظ الرقة، ولفظ الأوقية الثابت في الصحيح يشمل المصوغ كما يشمل المسكوك، وقد قدمنا أن التحقيق خلافه.
فإذا علمت حجيج الفريقين، فسنذكر لك ما يمكن أن يرجح به كل واحد منهما.
أما القول بوجوب زكاة الحلي. فله مرجحات:
منها: أن من رواه من الصحابة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم كثر، كما قدمنا روايته عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعائشة، وأم سلمة، وأسماء بنت يزيد، رضي الله عنهم.
أما القول بعدم وجوب الزكاة فيه، فلم يرو مرفوعًا إلا من حديث جابر، كما تقدم.
وكثرة الرواة، من المرجحات على التحقيق، كما قدمنا في سورة البقرة في الكلام على آية الربا.
ومنها: أن أحاديثه كحديث عمرو بن شعيب، ومن ذكر معه، أقوى سندًا من حديث سقوط الزكاة الذي رواه عافية بن أيوب.
ومنها: أن ما دل على الوجوب مقدم على ما دل على الإباحة. للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب كما تقرر في الأصول، وإليه الإشارة بقول صاحب (مراقي السعود) في مبحث الترجيح باعتبار المدلول.
وناقل ومثبت والآمر ** بد النواهي ثم هذا الآخر

على إباحة. الخ.
ومعنى قوله: ثم هذا الآخر على إباحة أن ما دل على الأمر مقدم على ما دل على الإباحة كما ذكرنا.
ومنها: دلالة النصوص الصريحة على وجوب الزكاة في أصل الفضة، والذهب، وهي دليل على أن الحلي من نوع ما وجبت الزكاة في عينه، هذا حاصل ما يمكن أن يرجح به هذا القول.
وأما القول بعدم وجوب الزكاة في الحليّ المباح، فيرجح بأن الأحاديث الواردة في التحريم إنما كانت في الزمن الذي كان فيه التحلي بالذهب محرمًا على النساء، والحلي المحرم تجب فيه الزكاة اتفاقًا.
وأما أدلة عدم الزكاة فيه، فبعد أن صار التحلي بالذهب مباحًا.
والتحقيق: أن التحلي بالذهب كان في أول الأمر محرمًا على النساء ثم أبيح، كما يدل له ما ساقه البيهقي من أدلة تحريمه أولًا، وتحليله ثانيًا، وبهذا يحصل الجمع بين الأدلة، والجمع واجب إن أمكن كما تقرر في الأصول وعلوم الحديث، وإليه الإشارة بقول صاحب (مراقي السعود).
والجمع واجب متى ما أمكنا ** إلا فللأخير نخ بينا

ووجهه ظاهر، لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، ومعلوم أن الجمع إذا أمكن أولى من جميع الترجيحات.
فإن قيل: هذا الجمع يقدح فيه حديث عائشة المتقدم، فإن فيه فرأى في يدي فتخات من ورق الحديث: والورق: الفضة، والفضة لم يسبق لها تحريم، فالتحلي بها لم يمتنع يومًا ما.
فالجواب ما قاله الحافظ البيهقي رحمه الله تعالى قال. من قال: لا زكاة في الحلي، زعم أن الأحاديث والآثار الواردة في وجوب زكاته كانت حين كان التحلي بالذهب حرامًا على النساء. فلما أبيح لهن سقطت زكاته.
قال: وكيف يصح هذا القول مع حديث عائشة، إن كان ذكر الورق فيه محفوظًا، غير أن رواية القاسم، وابن أبي مليكة، عن عائشة في تركها إخراج زكاة الحلي، مع ما ثبت من مذهبها من إخراج زكاة أموال اليتامى يوقع ريبة في هذه الرؤية المرفوعة، فهي لا تخاف النَّبي صلى الله عليه وسلم فيما روته عنه، إلا فيما علمته منسوخًا-. اهـ.
وقد قدمنا في سورة البقرة الكلام على مخالفة الصحابي، لما روي في آية الطلاق، وبالجملة فلا يخفى أنه يبعد أن تعلم عائشة أن عدم زكاة الحلي فيه الوعيد من النَّبي لها بأنه حسبها من النار ثم تترك إخراجها بعد ذلك عمن في حجرها، مع أنها معروف عنها القول: بوجوب الزكاة في أموال اليتامى.
ومن أجوبة أهل هذا القول: أن المراد بزكاة الحلي عاريته، ورواه البيهقي، عن ابن عمر، وسعيد بن المسيب، والشعبي، في إحدى الروايتين عنه.
هذا حاصل الكلام في هذه المسألة.
وأقوى الوجوه بحسب المقرر في الأصول وعلم الحديث، الجمع إذا أمكن، وقد أمكن، هنا:
قال مقيده- عفا الله عنه-: وإخراج زكاة الحلي أحوط لأن «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه»، «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك». والعلم عند الله تعالى.